أخلاق الداعية (1) أخـــــــــلاق الدّاعيـــــــة للشيخ وحيد الدين خان

أخلاق الداعية (1)
أخـــــــــلاق الدّاعيـــــــة
ثمة شبه مدهش بين أخلاق الداعية وقواعد السلوك التي ينتهجها التاجر عن وعي منه أو عن غير وعي وإن بدئ هذا الشبه متناقض في الظاهر، ذلك أن لا الداعية ولا التاجر يمكنه ـــــــ رغم اختلاف الدوافع ـــــــ أن يسئ إلى من يتعامل معهم أو يثبط همهم فكما يقدم التاجر التنازلات لزبائنه ويتحمل منهم أنواع المضايقات والمشاكسات في سبيل ترويج بضاعته لتحقيق أرباح أكثر، فإن الداعية ـــــــ الذي هو دافعة إلهام الهي ـــــ يعامل جماعته بكل تسامح ورحابة صدر متغاضياً عن كل الإساءات والإهانات التي قد يتعرض لها بقدر حرصه للصفح عن كل الزلل والهفوات في سلوك الآخرين التي قد تعيق سبيل قيامه بمهمته. وكما أن التاجر حريص على بذل قصارى جهده لترغيب زبائنه في شراء بضاعته وبالتالي الابتعاد عن كل ما من شأنه أن ينفرهم منه فإن الداعية يتحمل كل الصعاب في سبيل إيجاد التربة الخصبة لنشر رسالته في جو خال من التوترات والانفعالات، وكلاهما يتجنب إثارة المشاعر السلبية بأي شكل من الأشكال.
إن هذا المفهوم لأخلاق الداعية ينسجم تماماً مع رسالته مع النبي عيسى وكذلك مع تعاليم الإسلام. وفي هذا المقام نقتبس بعض مواعظ به السيد المسيح بن مريم.
"لقد سمعتم أنه قد قيل إنّ العين والسن بالسن ولكن أنا أقوال لكم لا تردون الأذى بمثله وكل من صفعك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيمن خدك الأيسر ليصفعه أيضاً وأنه إذا ما قاضاك إنسان لأخذ معطفك منك فتنازل له عن ردائك أيضاً. ومن اضطرك غلى السير ميلا واحد فسر معه ميلين وأعطه كل ما يطلبه منك ولا ترده خائبا فيما يريد استعارته منك. لقد سمعتهم أنه قيل عليكم إن تتودّدوا بالمحبة إلى جاركم وأن تكرهوا عدوكم ولكن أنا أقوال إن تحبوا أعداءكم وأن تحسنوا لمن يسيء إليكم وأن تصلوا من أجل الذين يمارسون الأحقاد ضدكم ويستضعفونكم في الأرض وأنكم عباد الرحمن الذي يعلو فوق الخير والشر ويسخر الغيث ليسقي به العادلين والظالمين، إذ ما الذي ستجنونه من حبكم لمن يحبكم؟ أليس هذا ما يفعله العشارون وإذا ما اقتصرت تحيتكم على إخوتكم فقط فما الذي تختلفون فيه عن الآخرين ألا يفعل العشارون هكذا. كونوا كاملين بغير عيب قريبين من خالقكم المعصوم من كل الأخطاء والعيوب.
(متّى 5/38 /48)
وإن أولئك الذين لم يتوصلوا لمعرفة كنه تعاليم النبي عيسى واستنباط خفاياها تجد ينزعون إلى عدم قبولهم لهذه الروح السلمية والتي يرونها على أنها أفضل بقليل من الخضوع السلبي الذي لم يعد له مكان في هذا العالم المادي.
إنني أجرؤ على القول بأن هذا التحريف شنيع لتفسير الموعظة، ذلك أن ما أوصى السيد المسيح يعتبر في واقع الأمر قواعد السلوك التي يجب أن يسير بمقتضاها الدعاة دون غيرهم من العامة ويفترض في الداعية ـــــــ في سبيل رسالته إلى الآخرين ـــــــ أن يتحدث ثورة ثقافية بين الناس. وللقيام بذلك عليه أن يطبع في أفئدة الناس أن الرسالة التي يبشر بها تعتبر غاية من الأهمية وهذا لن يتأتى إلا إذا وجد المناخ الخالي من التوتر والانفعالات بين الداعية وجماعته المدعوين، وهذا المناخ السوي سوف لن يكون في الامكان إيجاده إذا ما أصر الداعية على ضرورة إيجاده من قبل الجانبين. وإذا ما ربط الداعية نفسه بانفعالات الآخرين وسمع لنفسه الانزلاق في متاهات الإثارة والاستفزاز فإنه بذلك يحول دون إيجاد المحيط الملائم لتقبل الرسالة التي يبشر بها بكل عناية واهتمام. وهنا تكمن مهمة الداعية في خلق مثل هذا الجو من الوئام دونما أحد يساعده في ذلك.
وعليه أن يسمو دائما وأبداً فوق اللجوء إلى الأساليب الانتقامية ويفتح المجال أمام إقامة علاقات وئام وانسجام صادقة.
إن النزعات والخلاف في الرأي بين الداعية ومستمعيه سببها في معظم الأحيان أمور دنيوية. ولتفادي هذه المشكلة فقد أوصى النبي عيسى أتباعه بأن يكونوا في مثل هذا الحالات على استعداد لتحمل الخسارة المادية من طرف واحد للحيلولة دون وجود عراقيل تعيق سبيل نشر الرسالة. فلوا أراد جماعة المدعوين أن يسلبوا الداعية قميصه فيجب أن يكون لديه الاستعداد لتسليمهم ردائه أيضا حتى لا يتحول الانتباه عن الرسالة التي يبشر بها.
يتبع